تحاول إسرائيل إعادة تشكيل الأزمة بين إيران والولايات المتحدة وتأجيجها، وإعلائها على رأس جدول أزمات الشرق الأوسط بدلاً من أزمة فلسطين.. وأن تشترط حلّها مُقدّمة ضرورية لحل ازمة فلسطين. ما يؤكّد لنا أن جوهر الصِراع الإيراني- الإسرائيلي ليس في إنتاج السلاح النووي، بل في التكنولوجيا النووية السلمية والتطوّر العلمي والتكنولوجي عامة الذي تنشده إيران.
باٌلرّغم من أن الاتّفاق النووي الذي وقُعت عليه إيران يمنعها من إنتاج المركبات الضرورية لتصنيع القنبلة النووية، وبالرغم من تنفيذها للاتّفاق بوقف التخصيب عالي المستوى، وبنقل 97% من اليورانيوم المُخصّب بدرجة عالية إلى روسيا، أصرّ نتانياهو على القول في مداخلته المُسجّلة خلال منتدى صابان في واشنطن بداية هذا الأسبوع، أن “ايران، حتى لو نفذّت الاتّفاق فإنها قادرة أن تنتج سلاحاً نووياً في المستقبل”، وأنه “سيعيد بحث هذا الموضوع مع دونالد ترامب بعد تسلّمه الرئاسة مباشرة”.
إذن، تحاول إسرائيل إعادة تشكيل الأزمة بين إيران والولايات المتحدة وتأجيجها، وإعلائها على رأس جدول أزمات الشرق الأوسط بدلاً من أزمة فلسطين.. وأن تشترط حلّها مُقدّمة ضرورية لحل ازمة فلسطين. ما يؤكّد لنا أن جوهر الصِراع الإيراني- الإسرائيلي ليس في إنتاج السلاح النووي، بل في التكنولوجيا النووية السلمية والتطوّر العلمي والتكنولوجي عامة الذي تنشده إيران. وهذا ما أكّده نتانياهو دائماً خلال مفاوضاته مع أوباما مُشدّداً على مطلب إسرائيل بمنع إيران من امتلاك “القدرة” على إنتاج السلاح النووي، وليس فقط السلاح بحد ذاته. لأن مثل هذه “القدرة” تعني التطوّر العلمي الذي يمكن أن يحوّل إيران إلى قوة اقتصادية مُنتجة لِما يحتاجه السوق الإقليمي، وبغياب الصراع السنّي الشيعي المُفتعَل، يجعل السوق الخليجي عامة منطقة حيوية لإيران، وهذا يعني منطقة نفوذ اقتصادي وسياسي.. الأمر الذي يقطع الطريق على الطموحات الصهيونية، القديمة- المُتجدّدة، بتحويل الشرق الأوسط إلى المنطقة الحيوية للتكنولوجيا الإسرائيلية، وبالتالي تصبح الأنظمة العربية الرجعية تابعة لها إلى أجل غير مُسمّى.
من هنا سعت إسرائيل منذ اليوم الأول إلى انتخاب ترامب، و”بهدوء”، وفق طلب بنيامين نتانياهو من وزرائه، للتأثير فيمن يختار من موظفيه الكبار، بدءاً بمستشار الأمن القومي ورئيس جهاز القضاء ورئيس السي آي إيه وحتى اختيار وزير الخارجية وممثّل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة …الخ . ويبدو مما يُصرّح به بعض المُطّلعين، أن إسرائيل ستسعى من خلال هؤلاء ليس الى إلغاء الاتفاق، بل إلى إعادة فتحه والتفاوض من جديد على بعض بنوده باٌدعاء إنها مُبهمَة، حتى تستطيع من خلال ذلك تمديد العقوبات الاقتصادية إلى أطول وقت ممكن، وقد مهّد إلى هذا قرار الكونغرس الأخير بتمديد العقوبات على إيران، ما يُشكّل نقضاً واضحاً للاتفاق باعتراف الأوساط الإسرائيلية المُختصّة، وذلك يمكن أن يحدّ من التطوّر العلمي والاقتصادي الذي تطمح إليه إيران، أو قد يُسبّب ردّ فعل إيراني مُعاكِس يقوّض الاتفاق أكثر فيُبطلُهُ فعليّاً، وإن لم يكن رسميّاً. الرؤية الإسرائيلية لدورها واستراتيجيتها في الشرق الأوسط تفترض أنها ستحاول بناء شراكة اقتصادية مع دول الخليج برعاية أمريكية، ليس فقط لمواجهة تطوّر الاقتصاد الإيراني ومنع توسّعه إقليمياً، والقفز عن قضية فلسطين إلى أجل غير مُسمّى، بل لبناء منظومة اقتصادية تواجه المنظومة الصينية الروسية الإيرانية، انسجاماً مع طموح ترامب لاستعادة قوة الاقتصاد الأمريكي في مواجهة الصين، وإذا ما نجحت إسرائيل في ذلك سيعود البيت الأبيض إلى التصادم مع روسيا في أوروبا ومصادر تزويدها بالغاز. فهل تنجح إسرائيل في مساعيها هذه؟
لتحقيق ذلك تسعى إسرائيل أيضاً إلى إقناع البيت الأبيض الجديد، بضرورة رعاية الناتو لتحالف عسكري، إسرائيلي- سنّي، ضدّ إيران وسوريا وحزب الله. وهذا مطلب خليجي منذ بداية العام 2012، وقد أكّدته هيلاري كلينتون في كتابها “خيارات صعبة” تحت ما يُسمّى “انطلاقة لشراكة استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط”، وعبّر عنه وزير الخارجية السعودي أكثر من مرة في السنتين الأخيرتين، ودعت إليه “المعارضة السورية” في تصريحات قياداتها الأخيرة عبر الفضائية الإسرائيلية i24. باللغة العربية.
لقد كان النشاط العسكري الإسرائيلي خلال الأسبوع الماضي والذي تمثّل بقصفٍ جوّي في محيط دمشق وتسخين الأجواء على الحدود مع حزب الله، رسالة من بيبي نتانياهو ليس فقط إلى الداخل الإسرائيلي للتغطية إعلاميّاً على فضائح الفساد المُتفاقِمة، أو للفت انتباه الإسرائيليين إلى العدو الخارجي بدلاً من انشغالهم بفضائحه العائلية، وإنما هي رسالة إلى روسيا وإلى مَن اعتقد من الإسرائيليين أن إسرائيل أصبحت مُكبّلة وغير قادرة على أن تتصرّف بحرية في الأجواء السورية واللبنانية في ظلّ الانتشار العسكري الروسي في سوريا. وربما كان ذلك رسالة أيضاً إلى أمريكيا، واستجابة لمطلب الخليج “السنّي” و”المعارضة السورية السنّية” الحليفة، ولتركيا، لتثبت إسرائيل تمسّكها بالتحالفات الاستراتيجية معهم ضدّ ايران وسوريا وحزب الله وروسيا على حد سواء.
بالمقابل، ماذا لو كان الاهتمام الأميركي الأول هو محاربة الإرهاب الداعشي في سوريا؟ وهو إرهاب مدعوم من إسرائيل وحلفائها الخليجيين وتركيا. وهذا قد يتطلّب تفاهمات أمريكية إيرانية إضافة إلى التفاهمات مع روسيا؟ لا شك أن ذلك لن يروق لإسرائيل، ومن هنا فإن الخيار الأميركي لأولوياتها هو الذي سيُشير إلى الاستراتيجية الأميركية الجديدة ودور إسرائيل فيها.